يُوسُفُ طِفْلٌ مُولَعٌ بِبَرَامِجِ ﭐلإنْترْنِيتِ ، وَمُدْمِنٌ عَلَى ألْعَابِ ﭐلْحَاسُوبِ ، بِحَيْثُ يَقْضِي مُعْظَمَ أَوْقَاتِه أَمَامَ شَاشَتِهِ .
فِي ﭐلْبدَايَةِ لَمْ يَهْتَم وَالِدَاهُ بـِﭐلْأَمْرِ كَثِيرًا، إلَّا أَنَّ ﭐلْقَلَقَ بَدَأ يُسَاوِرُهُمَا بَعْدَمَا لاحَظَا تَأَخُّرَ نَتَائِجِهِ ﭐلدِّراسِيَّةِ، وقِلَّةَ تَرْكيزِهِ فِي ﭐلْمُرَاجَعَةِ وَﭐلْمُطَالَعَةِ ، وَتَخَلِّيهِ عَنْ رِيَاضَتِهِ ﭐلْمَحْبُوبَةِ، وَمَعَ كُلِّ هَذَا لَمْ يَتَّخِذَا ﭐلتَّدَابِيرَ اللاَّزِمَةَ لِمُساعَدَتِهِ عَلَى ﭐلتَّخَلُّصِ مِنْ رِبَاط ﭐلإِنْتِرنِيتِ ﭐلْوَثِيقِ ، الَّذِي أَصْبَحَ يُكَبِّلُهُ ويُعِيقُ تَوَاصُلَهُ وَتَعَلُّمَهُ ، لَقَدْ غَدَا يُوسُفُ مِلْكًا لِرَغْبَتِه ﭐلجَامِحَةِ فِي ﭐلْبَحْثِ
دَاخِلَ ﭐلْفَضَاءِ ﭐلأَزْرَقِ ﭐلْمُتَعَدِّدَةِ بَرَامِجُه ، وﭐلْمُتَنَوِّعَةِ أَقْسَامُهُ وَأَنْوَاعُهُ، ﭐلْعَاتِيَةِ أَمْوَاجُه، فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُحَاوِل يُوسُفُ ﭐلاِنْفلِاَتَ مِنْ قَبْضَتِهِ إِلَّا وَيَجِدُ نَفْسَهُ ضَعِيفًا أمَامَ إِرَادَتِهِ ﭐلمَسْلُوبَةِ ، بِحَيْثُ يَتَعَكَّرُ مِزَاجُهُ ، وَيَتَكَدَّرُ صَفْوُهُ ، وَيَقِلّ تركيزُه، لَكِنْ مُنْذُ مُدَّةٍ لَيْسَتْ بـﭐلْقَصِيرَةِ ﭐشْتَدَّ عَلَيْهِ صُدَاعُ ﭐلرَّأْسِ ﭐلَّذِي يَزُورُهُ كُلَّ مَرَّةٍ وَلَا يَتْرُكُهُ يُحِسُّ بـِﭐلرَّاحَةِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يُطِيقُ صَبْرًا عَلَيْهِ، فـﭐضْطَرَّتْ أُمُّهُ مَعَ تَفَاقُمِ ﭐلْأَمْرِ وَﭐشْتِدَادِه، أَنْ تَصْحَبَهُ إلَى عِيَادَةِ طَبِيبٍ .
فِي عِيَادَةِ ﭐلطَّبِيب كَانَتْ حِدَّةُ ﭐلأَلَمِ وَﭐلصُّدَاعِ شَدِيدَةً وقويَّةً ، فَلَمَّا أَجْرَى ﭐلطَّبِيبُ فُحُوصَاتِهِ ﭐللَّازِمَةَ ، تَوَجَّهَ إلَى يُوسُفَ مُتَسَائلاً:
– هَل تُشَاهِدُ ﭐلِتّلْفازَ أَو ﭐلْحاسوبَ أَوْ ﭐلْهَاتِفَ بِشَكْلٍ مُسْتَمِرٍّ يَا يُوسُفُ ؟
حَاوَل يُوسُفُ أَنْ يُجِيبَ ، لَكِنَّ أُّمَّهُ بَادَرَتْ قَائِلَةً :
– نعم يَا دُكْتُور،إنَّنَا ﭐحْتَرْنَا فِي أَمْرِهِ ، فَهُوَ لَا يُزِيلُ ﭐللَّوْحَةَ ﭐلإِلِكْتِرُونِيَّةَ مِنْ يَدَيْهِ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَنِ ﭐللَّعِبِ لَيْلَ نَهارَ !
-اَلطَّبِيبُ: مُنْذُ مَتَى وَأَنْتَ تُشْعُرُ بصُدَاعٍ فِي رَأْسِكَ ؟
-يُوسُفُ: مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ.
-اَلطَّبِيبُ: أَمْرٌ طَبَعِيٌّ أَنْ تَصِلَ إلَى هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ ، فَقَد أَتْعَبْتَ جِهَازَكَ ﭐلْعَصَبِيَّ، وَأَثَّرَتَ عَلَى عَيْنَيْكَ، فَـﭐلْعَيْنُ ﭐلْيُسْرَى بَدَأَتْ تَتَكَاسَلُ ، وَهِيَ بِحاجَةٍ إِلَى تَرْوِيضٍ حَتَّى تَعُودَ إلَى حَالَتِهَا الْعَادِيَّةِ . كَتَبَ ﭐلطَّبِيبُ وَصْفَةَ ﭐلْعِلَاجِ ، وتَمْتَمَ بـِكَلَامٍ لِلْأُمِّ لَمْ يَسْمَعْهُ يُوسُفُ ، لَكِنْ بِمُجَرَّدِ أَنْ وَصَلَا إلَى ﭐلْبَيْتِ ، قَامَتْ بِإِخْفَاءِ كُلِّ ﭐلأَجْهِزَةِ ﭐلإِلِكْتِرُونِيَّةِ: (ﭐللَّوْحَةِ ، ﭐلْحَاسُوبِ، ﭐلْهَوَاتِفِ)، بَعْدَ ذَلِكَ حَمَلَتْ كِيسَ ﭐلْأَدْوِيَةِ مَع كَأْسِ مَاءٍ ، لِيَشْرَعَ ﭐبْنُهَا فِي بِدَايَةِ ﭐلْعِلَاجِ .
بَعْدَمَا تَنَاَوَلَ يُوسُفَ ﭐلْأَدْوِيَةَ ﭐلْمُخَصَّصَةَ لِفَتْرَةِ ﭐلظَّهِيرَةِ ، أَقْبَلَ وَالِدُهُ يَطْمَئِنُّ عَلَى صِحَّتِهِ ، فَأَخْبَرَتْهُ ﭐلْأُمُّ
بِمَا قَالَهُ ﭐلطَّبِيبُ :
– لقد أَثّرَ إِدْمَانُهُ عَلَى ﭐلألْعَابِ الإِلِكْتِرُونِيَّةِ، وَجُلُوسُهُ ﭐلطَّوِيلُ أمَامَ شاشَةِ ﭐلْحَاسُوبِ عَلَى جِهَازِه ﭐلْعَصَبِيِّ وَعَلَى عَيْنَيْهِ ، لِذَلِك حَتَّى يُعْطِيَ ﭐلْعِلَاجُ مَفْعُولَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ ﭐسْتِعْمَالِ كُلِّ هَذِهِ ﭐلأَجْهِزَةِ وﭐلألعابِ ، إلَى أَنْ يتَعافَى ، حِينَهَا يُمْكِنُ أَنْ نَسْمَحَ لَه بـِﭐسْتِعْمَالِهَا، لَكِنْ بِشَكْلٍ مُعقلَنٍ .
-اَلْوالِدُ : أَإِلَى هَذِهِ ﭐلدَّرَجَةِ ؟
– اَلْأُم : نَعَمْ ، بَلْ هُوَ بِحاجَةٍ مَاسَّةٍ لزِيَارَةِ طَبِيبِ ﭐلْعُيُونِ ، لِمُتَابَعَةِ حَالَة عَيْنِهِ ﭐلْيُسْرَى، فَيَبْدُو أنَّها تَضَرَّرَتْ كَثِيرًا .
تَوَجَّهَ ﭐلْوَالِدُ إلَى يُوسُفَ نَاصِحًا: لَعَلَّكَ أَدْرَكْتَ الْآنَ يَا وَلَدِي خُطُوَرَةَ ﭐلْإِدْمَانَ عَلَى هَذِهِ ﭐلأَجْهِزَةِ ، عَلَى صِحَّتِكَ وتحْصِيلِكَ ﭐلدَّرَاسِيِّ وَعَلَى عَلاَقَاتِكَ بِأُسْرتِكَ وبأصْدقَائِكَ ، بَلْ حَتَّى عَلَى علاَقَتِكَ
بخَالِقِكَ ، فَقَد لَاحَظَتُ أنَّك مُؤَخَّرًا تُفَرِّطُ فِي أَدَاءِ صَلَوَاتِكَ، لِذَلِكَ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلتَّرَاخِي، بَعْدَمَا بَلَغَ ﭐلأمْرُ إلَى هَذَا ﭐلْحَدِّ، فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ لِمُتَابَعَةِ عِلاجِكَ ؟
طَأْطَأ يُوسُف رَأْسَهُ ، وَﭐحْمَرَّ وَجْهُهُ ، وَرَدَّ عَلَى وَالِدِهِ: نَعَمْ، أُرِيدُ أَنْ أَسْتَعِيدَ عافِيَتِي، وَلَكِنْ أَلَا يُمْكِنَ أَنْ تَسَمْحَا لِي وَلَوْ بِسَاعَةٍ فِي ﭐلْيَوْمِ لألْعَبَ ؟
– لَمْ تَتَمَالَكِ ﭐلْأُمُّ نَفْسَهَا فَصَرَخَتْ فِي وَجْهِهِ غَاضِبَةً :
أَمَا زِلْتَ مُصِرًّا عَلَى تصَرُّفَاتِكَ، أَلَمْ تَسْمَعْ كَلَامَ ﭐلطَّبِيبِ ؟ إنَّ ﭐلْحَالَةَ الَّتِي وَصَلَتْ إلَيْهَا لَا تُبَشِّر بـِﭐلْخَيْر، إِمَّا أَنْ نَتَعَاوَنَ جَمِيعًا لِتشَفَى وتَسْتَعيدَ عَافِيَّتَكَ ، وَإمَّا سَتَضِيعُ صِحَّتُكَ وَعَقْلُكَ ودِرَاسَتُكَ ، أَهَذَا مَا تُرِيدُ ؟
– يوسُفُ : لَا لَا ، أُرِيدُ أَنْ أَشْفَى فـﭐلْألَمُ يُمَزِّقُنِي ، سَأَبْذُل وُسْعِي ، سَأُحَاوِلُ ، نَعَمْ سَأُحَاوِل .
.- الْوَالِد مُتَوَجِّهًا بِكَلَامِه لِابْنِهِ يُوسُفَ: ﭐلْآنَ بَعْدَمَا تَنَاوَلْتَ دَوَاءَكَ، خُذْ قِسْطًا مِنْ ﭐلرَّاحَةِ ، وسَنَتَعاوَنُ جَمِيعًا مِنْ أَجْلِ تَخْلِيصِكَ مِنْ قَبْضِةِ هَذَا ﭐلْمارِدِ ﭐللَّعِينِ ، الَّذِي سيُضِيعُك مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا.
تَوَجَّه يُوسُفُ نَحْو سَرِيرِهِ ، وغَطَّتْهُ أُمُّهُ بِغِطَاءٍ رَقِيقٍ ، فـﭐلجَوُّ حَارٌّ ؛ خَاصَّةً بَعْدَ ﭐلظَّهِيرَةِ .
جَلَس يُوسُفُ بِجِوَار وَالِدِه وَأُمِّهِ عَلَى شَاطِئِ ﭐلْبَحْرِ، ثُمَّ وَضَعَ مِحْفظَتَهُ ﭐلَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ، وَأَخْرَجَ مَا فِيهَا، فَقَدِ ﭐشْتاقَتْ كُتُبُهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَخْرَج كُتُبًا كَانَ يَنْوِي أَنْ يُطَالِعَ فِيهَا بَعْدَمَا هَجَرَهَا
مُنْذُ مُدَّةٍ، وَوَضَعَ سَجَّادَتَهُ فِي ﭐتِّجَاهِ ﭐلْبَحْرِ، وَجَلَسَ عَلَيْهَا ثُمَّ فَتَحَ كِتَابًا ليَقْرَأَهُ، لَكِنَّه سُرْعَانَ مَا أَعَادَهُ إلَى مِحْفَظَتِهِ، مُوَجِّهًا نَظَرَهُ إلَى هَذَا ﭐلْبَحْرِ ﭐلْأَزْرَقِ الَّذِي يُغْرِي بـِﭐلسِّبَاحَةِ، فَمَا هِيَ إلَّا لَحْظَةٌ حَتَّى ﭐرْتَمَى فِيه .
كَانَ يَشْعُرُ بـِﭐلْمُتْعَةِ حِينَمَا تَتَقَاذَفُهُ أَمْواجُ هَذَا ﭐلْبَحْرِ ﭐلْعَجِيبِ ، فَهِيَ تَرْميهِ مَرَّة يَمِينًا وَمَرَّة
شِمَالًا وَمَرَّةً إلَى ﭐلْأَعْلَى ، وَهُوَ مُنْغَمِسٌ فِي مَا تَحْمِلُهُ هَذِه ﭐلْأَمْوَاجُ مِنْ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ ،
بِحَيْثُ لَا يَقْوَ أَمَامَهَا عَلَى مُقَاوَمَةِ إغْرَاءِ ﭐلْكَشْفِ عَنْ خَبايَاها: فَمَرَّةً تَحْمِل ألْعَابًا ، وَمَرَّةً أَفْلاَمًا ، وَمَرَّةً قِصَصًا خَيَالِيَّةً، إلَى أَنْ رَمَتْهُ مَوْجَةٌ ، فـﭐرْتطَمَ بِلَوحَةِ سِبَاحَةٍ خَشَبِيَّةٍ كَانَ يَرْكَبُ عَلَيْهَا أَحَدُ أَصْدِقائِهِ ﭐلَّذِينَ تَعَرَّفَ عَلَيْهِمْ فِي عَالَمِ ﭐلإِنتِرْنِيتِ ﭐلِافْتِراضِيِّ، فَحَمَلَهُ مَعَهُ إلَى جَزِيرَةِ ﭐلْمُغَامَرَاتِ،وَهُنَاك جَرَّبَ كُلَّ ﭐلألْعَابِ وَﭐلْمَخَاطِرِ، إنَّهَا نفْسهَا الَّتِي كَانَ يَسْهَر لَيْلَهُ مَعَهَا أمَامَ شاشَةِ لَوْحَتِهِ ﭐلإِلِكْتِرُونِيَّةِ. وَفِي غَمْرَه نَشْوةِ ﭐللَّعِبِ مَعَ صَاحِبِهِ ، أَحَسَّ مَرَّةً أُخْرَى بِأَلَمٍ شَديدٍ فِي رَأْسِهِ ، كَأَنَّمَا مَطارِقُ تَهْوِي فَوْقَهُ بِلَا هَوَادَةٍ ، فَقَرَّرَ ﭐلْعَوْدَةَ إلَى ﭐلشَّاطِئِ ، إلاَّ أَنَّ صَاحِبَهُ رَفَضَ مُرافَقَتَهُ وَتَرَكَهُ يَعُودُ لِوَحْدِهِ.
بَذَل يُوسُفُ جهْدَه لِيَعُودَ إلَى ﭐلْبَرِّ ، وَيَخْرُجَ مِنْ هَذَا ﭐلْبَحْرِ ﭐلعاتِيَةِ أَمْوَاجُهُ ، لَكِنَّ ﭐلصُّدَاعَ وَﭐلْأَلَمَ يُثْقلانِ حَرَكَتَهُ وَسَطَ ﭐلْمَاءِ ويُعِيقانِهِ ، فَكَانَ يَسْبَح طَوِيلًا ، وَحِينَمَا يَلْتَفِت وَراءَهُ َيَجِد أَنَّهُ
لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ ، وبِمَشقّةٍ وَتَعَبٍ وَاصَل ﭐلسِّبَاحَة حَتَّى تَرَاءَى أَمَامَ عَيْنَيْهِ ﭐلْمَكَانُ ﭐلَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ وَالِدَاهُ ، فَحَاوَلَ ﭐلْإِسْرَاعَ لَكِنَّ ﭐلصُّدَاعَ يَشْتَدُّ وَيَشْتَدُّ ، وَيَدُهُ لَمْ تَعُدْ تُطَاوِعُهُ لِلْمَزِيدِ ، فَبَدَأَ يَشْعُرُ بـِﭐلْخَطَرِ يُهَدِّدُهُ ، فَلَا بُدَّ إذَنْ مِنَ ﭐلِاسْتِغَاثَةِ وَطَلَبِ ﭐلنّجْدَةِ !
رَفَعَ يُوسُفُ يَدَه مُشِيرًا ، لَكِنَّ ﭐلْأَشْيَاءَ ﭐلَّتِي يَرَاهَا تَبْدُو صَغِيرةً جِدًّا ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ مَا زَالَ بَعِيدًا عَنِ ﭐلشَّاطِئِ، فَبَدَأَ يَصْرُخَ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ، فَأَخَذَتْهُ مَوْجَةٌ إلَى ﭐلْأَعْلَى ، فَأَصْبَحَ يَرَى مِنْ بَعِيدٍ كُتُبَهُ وسَجَّادَتَهُ.
طَلَب يُوسُفُ ﭐلنّجْدَةَ مِنَ ﭐلْكُتُبِ ، بَعْدَمَا بَدَتْ لَهُ خَارِجَةً مِنْ مِحْفَظَتِهِ تَبْحَثُ عَنْ مَصْدَرِ صَوْتِهِ ، لَكِنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّفْ عَلَيْهِ ، وَهُوَ ﭐلَّذِي يَعْلُو فَوْقَ مُوَجَةٍ لَمْ يَعْرِفْ مَثِيلاً لَها .
– اَلْكُتُب: نَحْنُ نَسْمَعُ صَوْتَكَ يَا يُوسُفُ! لَكِنْ لَمْ نَعُدْ نُمَيِّزُ مَلَامِحَ وَجْهِكَ، فَقَدْ طَالَ غِيابُكَ عَنَّا ، حَتَّى نَسِينَا صُورَتَكَ ، أَيْنَ أَنْتَ ؟
– يُوسُفُ وهو يُشِيرُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ ويَصِيحُ: أنا هُنَا، أَنَا هُنَا فِي ﭐلْأَعْلَى، لَكِنْ عَبَثًا يُحَاوِلُ، حَتَّى لَمَحَ سَجَّادَتَهُ مُلْقَاةً، فَنَادَى عَلَيْهَا :
– سَجَّادَتِي، أَرْجُوكِ أَنْقِذينِي ، أَخْرِجِينِي مِنْ هَذَا ﭐلْبَحْرِ ﭐلْمُتَلاَطِمِ ، فَلَم أَعُدْ أَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ أَمْوَاجِهِ .
اِلْتَفَتَتِ ﭐلسَّجَّادَةُ نَحْو مَصْدَرِ ﭐلصَّوْتِ ، وَﭐرْتَفَعَتْ قَلِيلًا إلَى ﭐلْأَعْلَى ، فَظَهَرَتْ لَهَا يَدُ يُوسُفَ وَهُوَ يُشِيرُ بِهَا طَالِبًا ﭐلنّجْدَةَ ، فَصَرَخَتْ :
– يُوسُفُ يُوسُفُ ، أَنَا قادِمَةٌ سأُحَاوِلُ أَنْ أُسَاعِدَكَ .
تَنَفَّس يُوسُفُ ﭐلصُّعَدَاءَ، وَﭐسْتَبْشَرَ خَيْرًا بـِﭐلْفَرَجِ، لَكِنَّ ﭐلسَّجَّادَةَ عَجَزَتْ عَنْ ﭐلتَّحْلِيقِ عَالِيًا ، فَهِي ضَعِيفَةٌ هَزيلَةٌ ،لَا تَجِدُ لَهَا قُدْرَةً على ﭐلطَّيَرَانِ نَحْوَ ﭐلْأَعْلَى، فَمَا كَانَ مِنْهَا إلَّا أَنْ قَالَتْ وَبِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ فِيهِ حَسْرَةٌ :
-يُوسُفُ : أَنَا آسِفَةٌ ! لَا أَمْلِكُ أَنْ أُساعِدَكَ فَلَا أَجِدُ ﭐلْقُوَّةَ ﭐلْكَافِيَةَ للتَّحْلِيقِ ، لَقَد فَرَّطْتَ فِي صَلَوَاتٍ عِدَّة، فَخَفَّ مِيزَانُ أَفْضَالِي ، وَأَصْبَحْتُ مُثْقَلَةً بِدَيْنِ ﭐلْفَائِتِ مِنْ صَلَاتِكَ ،أَنَا آسِفَةٌ، آسِفَة !
ظَلّ يُوسُفُ يُحَاوِل ﭐلسِّبَاحَةَ ، وَسَط هَذَا ﭐلْبَحْرِ ﭐلأَزْرَقِ ، وَعَيْنَاهُ مُرَكَّزَتَانِ عَلى ﭐلشَّاطِئِ لَعَلَّهُ يَجِدُ مِنْ يُنْجِدُهُ مِنْ قَبْضَتِهِ.
وَمَع مُرُور ﭐلْوَقْتِ ، لَمْ يَعُدْ يَحْتَمِلُ ، فـﭐلتَّعَبُ أَخَذَ مِنْهُ مَأْخَذًا ، وَيَدَاهُ تَعِبَتَا مِن ﭐلتَّجْدِيفِ ، وَﭐلصُّدَاعُ يَشُقُّ رَأْسَهُ ، فَأَوَشَكَ عَلَى ﭐلِاسْتِسْلَامِ لِهَذَا ﭐلْعَذَابِ، لَكِنَّه ظَلَّ يَصْرُخُ وَيُنَادِي عَلَى وَالِدَيْهِ :أُمِّي ، أَبِي ، إنَّنِي أَغْرَقُ ،أَنْقِذَانِي . لَمْ يَشْعُرْ يُوسُفُ إلَّا وَيَدُ أُمِّهِ تَمْسَحُ ﭐلْعَرَقَ ﭐلْمُتَصَبِّبَ مِنْ جَبِينِهِ ، وَهِي تُحَاوِل طَمْأَنَتَهُ .
– الْأُمّ: يُوسُفُ يُوسُفُ، أَنَا بِجَانِبِكَ لَا تَخَفْ لَا تَخَفْ ، هَلْ كُنْتَ تَحْلُمُ ؟
اِسْتَفاقَ يُوسُفُ مِنْ حُلْمِهِ ﭐلأَزْرَقِ عَلَى صَوْتِ أُمِّهِ، فَقَالَ :
– نَعَمْ ، نَعَمْ ، كُنْت أَحْلُمُ ، ﭐلْحَمْدُ لِلَّهِ كُنْتُ فَقَطْ أَحْلُمُ . آيْ ، آيْ ، إنَّ رَأْسِي سَيَنْفَجِرُ .
الْأُمّ : حَسَنًا ،بَعْدَ تَنَاوُلِكَ طَعَامَ ﭐللُّمْجَةِ، سَأُعْطِيكَ حَبَّةً أُخْرَى مِنْ ﭐلدَّوَاءِ ،ﭐلْأَمْرُ لَيْسَ سَهْلًا ، يَحْتَاج مِنْك إلَى صَبْرٍ ومُقَاوَمَةٍ ، وَإِقْلَاعٍ كَامِلٍ عَنْ مُشَاهَدَةِ شَاشاتِ ﭐلأَجْهِزَةِ ﭐلإِلِكْتِرُونِيَّةِ ، حَتَّى تشْفَى وَتَعُودَ إلَى حَيَاتِكَ ﭐلطَّبِيعِيَّةَ .
(أَجابَ يُوسُفُ بِنَبْرَةٍ مُغَايِرَةٍ، فِيهَا نَوْعٌ مِنْ ﭐلْحَزْمِ وَﭐلْعَزْمِ بَعْدَ هَذَا ﭐلْحُلْمِ ﭐلمُزْعِجِ):
– نَعَمْ يَا أُمِّي ، أَعِدُكِ أنَّنِي سَأَبْذُلُ كُلَّ جهْدِي ، وسأتَغَلَّبُ عَلَى رَغْبَتِي وأَتَوَقَّفُ عَنْ مُشَاهَدَةِ هَذِه
ﭐلْأَجْهِزَةِ ، سَأَعُودُ إلَى كُتُبِي وَإِلَى سَجَّادَتِي ؛ أَقْصِدُ سَأُواظِبُ عَلَى صَلَاتِي، لَن أَخَيِّبَ ظَنَّكُمَا، فَأَنَا أَرْغَبُ فِي ﭐلْخُرُوجِ مِنْ هَذَا ﭐلْبَحْرِ ﭐلأَزْرَقِ ﭐلْعَاتِي .
لَمْ تفْهَمِ ﭐلْأُمُّ قَصْدَهُ ، وَلَكِنَّهَا حَمِدْتِ ﭐللَّهَ ، وأثْنَتْ عَلَى ﭐبْنِهَا الَّذِي أَخَذَ ﭐلْقَرَارَ :
– حَمدًا لِلَّهِ، إِنَّكَ عَرَفْتَ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ ، وَمِنِ جِهَتِنَا سَنَكُونُ لَكَ عَوْنًا وَسَنَدًا .