ماتت أم سعد[1] بعد مائة عام من العزلة[2]، في ذلك المجتمع المريض[3] دون أن يساعدها أحد على العلاج والنجاة من الموت، كان ذلك في 17 رمضان[4] قبل عشر سنوات، كنت قد عدت بعد ليلة سفر[5] قضيتها بين نارين[6]، حيث تركت أم سعد على فراش المرض تحتضر وأنا في البحث عن فرصة شغل، وربما فرصة للحياة[7].
كان لأم سعد ابنة اسمها زينب[8]، فتاة جميلة وخلوقة، تخدم جيراننا وتأتي لهم بما يحتاجونه، وكانت تصعد أحيانا إلى الجبل الذي يحيط بقريتنا لجلب الحطب حيث نستعمله لتسخين الماء في المسجد، ولعملها هذا، كان أولاد حارتنا[9] يلقبونها بأميرة الجبل[10]. وكان لأم سعد ولد جميل العينين، رطب الشعر، أسمع الأطفال في الطفولة يلقبونه بالأبله[11]، إلا زينب أخته، فقد اختارت أن تناديه بالأمير الصغير[12].
بعدما رحلت أم سعد، يلعب الأطفال بجوار منزلهم دون أن تشاركهم زينب، كانوا بدورهم يشعرون بأن شيئا ما قد تغير، وربما لأن رائحة الخبز[13] التي كانت تفوح من بيتهم قد رحلت برحيل أم سعد، لكن الصغار مع ذلك كانوا لا يعرفون شيئا كثيرا عن لغز الموت[14]، بالقدر الذي أدركت زينب أنها افتقدت شيئا، ربما كانت تعلم أنها افتقدت الجنة لأنها تحث أقدم الأمهات[15].
لم أكن أعرف لماذا يلقبون سعد بالأبله، ومرت الأيام فسألت زينب نفسها عن سبب ذلك، تنهدت وقالت لي في حزن:
- عندما توفي أبي في موسم الهجرة إلى الشمال[16]، شعر سعد بأن هذا الزمن الموحش[17] لا يرحم، وذات يوم وجدته في بيته على حافة الانتحار[18]، كان لون وجهه يميل إلى لون الزعفران[19]، حاولت أن أمنعه من الانتحار، وكان يدفعني عنه ويردد: “لا تخبري ماما[20] بشيء، قولي لها فقط أنني أحببتك أكثر مما ينبغي[21]. ثم وضع المشنقة على عنقه، فبدأت أستغيث وأصرخ حتى جاءت أمي، وحضر جميع جيراننا كبارهم وصغارهم، أنقدوه والحمد لله أن ذلك كان مجرد انتحار فاشل[22].
ثم أضافت زينب وهي متحسرة على عبث الأقدار[23] وما رسمته من أوجاع في ذاكرة الجسد[24]:
- آآآه… هذه أيام من حياتي تؤلمني[25]، وربما يؤلمني كل رجوع إلى الطفولة[26]. لقد أغمي على سعد ما يقارب إحدى عشرة دقيقة[27]، ثم استفاق بعد ذلك وهو يردد: “أشواك[28]، نعم هي أشواك، هي كل ما لم يخبرني به أبي عن الحياة[29]، لقد رحل أبي، لقد ذهب مع الريح[30]“. يدرك الكبار حزن تلك الكلمات أما الأطفال من أصدقائه فقد كانوا يضحكون وكانوا ينعتونه بالأبله، بالأحمق.
كانت تحكي قصة سعد بكل كبرياء وتحامل[31]، وهي تحاول أن تعيش[32] لحظة أخرى في البحث عن الزمن المفقود[33]. اجتمع الحرب والسلام[34] في قلبها فلم أعد أعي أكانت بالفعل تريد أن تتكيف مع ما تخبئه لنا النجوم[35]، أم كانت تبوح بأسرار الزمن الجميل الراحل طلبا في النعيم والظفر بلحظة نسيان[36] بعده.
كانت زينب خفيفة وكأنها فتاة من ورق[37]، ورغم ما تسمعه عن أخيها كانت تترفع وكأنها تعيش وتحلق فوق الغيوم[38]، كانت طيبة ولا ترى منها إلا طيبا، وإن كانت تعلم أنها في وسط اجتماعي يشبه قلعة النسور[39] المفترسة، في وطن[40] فيه كثير من الحب لكنه مجرد حب قاطعي الطرق[41]، حب أولئك الذين يشعروننا بأن قلوبهم معنا وقنابلهم علينا[42]. ما أسوأ النفاق، لكن ما أجمل زينب وهي تلتمس الأعذار وتترفع وتتعالى على أذى الناس دون أعذار[43].
أعجبتني زينب بمستوى تفكيرها، في الحقيقة أنا عشقت[44] لأول مرة، فكرت في أن أكتب لها عبر رسالة عبارة: أنت لي[45]، أخبرتها برغبتي في الزواج بها بعدما قضية ليلة واحدة في دبي[46]؛ حيت سافرت إليها من أجل العمل.
ردت مازحة:
- أنا قبلت، لكن بشرط: أن نقضي شهر العسل[47] في الدوحة.
وجدت ونفسي أمام امرأة تتقن فن الحرب[48]، فقد علمت أنني أعشق الدوحة، وربما ذلك هو الذي جعلها تصنع لي ميتتان لرجل واحد[49]، فقد أماتتني أولا بقبولها الزواج بي، وثانيا باختيارها للدوحة التي أحبها.
بعد زواجنا وقفت زينب ذات صباح، وبعد تأملات[50] قالت لي ساخرة:
- أنا حزينة هنا، هنا أرض السواد[51]، هنا المتعة لكنني أشعر بشيء يقتلني، وربما هي مخالب المتعة[52]، ماذا لو نسي الإنسان وعده في قضاء هذا الشهر في الدوحة؟ أيستحق أن أعيش معه وأنا أشعر بأن الوطن ليس هنا[53]؟
ضحكنا كثيرا ثم اتفقنا على يوم للسفر، استيقظت زينب ذلك اليوم مبكرا استعدادا للرحيل، فقالت والسعادة تغمرها:
بالله عليك، قل لي أي لون ألبس دون أن يخدش في سعادتي بمغادرة هذه المدينة التائهة[54]؟
أجبتها ساخر:
صعدنا إلى الطائرة وفي يدي رواية (كن خائنا تكن أجمل)[58] أهدتها لي زينب يوم عقدنا القران دون أن أفتحها يوما، وفي يديها رواية (في قلبي أنثى عبرية)[59]. لا أدري في الحقيقة ما الذي يجمع بين الروايتين، وربما هو القدر[60] نفسه الذي جمعني بها.
سألتها قبل نزولنا بمطار الدوحة عن خطتها في بناء شخصيتها المرحة، فأخبرتني أنها تقرأ الروايات، قالت لي مبتسمة:
- هيا احسب معي الروايات التي قرأتها أيها الزوج الطيب الكسول.
بدأت في سرد عناوينها وأسماء كتابها، وهي متن قصتي معها؛ مرتبة كما هي في الهامش.
[1] رواية أم سعد لغسان كنفاني
[2] رواية مائة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز
[3] رواية المجتمع المريض لنجيب الكيلاني
[4] رواية 17 رمضان لجرجي زيدان
[5] رواية ليلة سفر لمحمد ناجي
[6] رواية بين نارين لجرجي مطران
[7] رواية فرصة للحياة لقسمة الشيبني
[8] رواية زينب لمحمد حسين هيكل
[9] رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ
[10] رواية أميرة الجبل لنجيب الكيلاني
[11] رواية الأبله وهي في جزأين كتبها الأديب الكبير دوستويفسكي
[12] رواية الأمير الصغير لأنطوان دوسانت وأكزوبيري
[13] رواية رائحة الخبز لأحمد الخميسي
[14] رواية لغز الموت لمصطفى محمود
[15] رواية تحث أقدام الأمهات لبثينة العيسي
[16] رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح
[17] رواية الزمن الموحش لحيدر حيدر
[18] رواية على حافة الانتحار لمصطفى محمود
[19] رواية لون الزعفران لإنجي أرال
[20] رواية لا تخري ماما لتوني ماغواير
[21] رواية أحببتك أكثر مما ينبغي لأثير عبد الله النشمي
[22] رواية انتحار فاشل لأحمد رمضان
[23] رواية عبث الأقدار لنجيب محفوظ
[24] رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي
[25] رواية حياتي تؤلمني لسوما علي
[26] رواية رجوع إلى الطفولة لليلة أبو زيد
[27] رواية إحدى عشر دقيقة لباولو كويليو
[28] رواية أشواك لسيد قطب
[29] رواية ما لم يخبرني به أبي عن الحياة لكريم الشاذلي
[30] رواية ذهب مع الريح لمرغريث ميتشل
[31] رواية كبرياء وتحامل لجان أوستن
[32] رواية أن تعيش للأديب الصيني يو هوا
[33] رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل برست
[34] رواية الحرب والسلام لليو تولستوي
[35] رواية ما تخبئه لنا النجوم لجون جريم
[36] رواية نسيان لأحلام مستغانمي
[37] رواية فتاة من ورق لغيوم ميسو
[38] رواية فوق الغيوم لمارك دوقان
[39] رواية قلعة النسور لفلاديمير بارتول
[40] رواية وطن لمحمد بن صالح الشهراني
[41] رواية حب قاطعي الطرق لماسيمو كارلوتو
[42] رواية قلوبهم معنا وقنابلهم علينا لأحلام مستغانمي
[43] رواية دون أعذار لدعاء معوض
[44] رواية أنا عشقت لمحمد المنسي قنديل
[45] رواية أنت لي لمنى المرشود
[46] رواية ليلة واحدة في دبي لهاني نقشبندي
[47] رواية شهر العسل لإيمي الأشقر، ولنجيب محفوظ رواية بالعنوان نفسه
[48] رواية فن الحرب للقائد العسكري الصيني يون تزو
[49] رواية ميتتان لرجل واحد لجورج أمادو
[50] رواية تأملات لفهم شرقاوي
[51] أرض السواد لعبد الرحمن مونيف
[52] مخالب المتعة لفاتحة مرشيد
[53] الوطن ليس هنا لمراد الضفري
[54] رواية المدينة التائهة لمحمد حلمي مخلوف
[55] رواية الأسود يليق بك لأحلام مستغانمي
[56] رواية مواويل الغربة للطيفة الحاج قديح
[57] رواية الموت لفلاديمير بارتول
[58][58] رواية كن خائنا تكن أجمل لعبد الرحمن مروان حمدان
[59] في قلبي أنثى عبرية لخولة حمدي
[60] رواية القدر لميرا اسماعيل